مذكرات مربي

... قًََـفـَّـلَ الرّاديو و تثاءب طويلا كأنّما يختزن هواء المحيط في رئتيه.. لكأنمّا يريد دفع الدّم إلى شرايينه.. و مازال على حالته تلك ’ يستلذّ دفء المكان الذي يدغدغ الجفون و ينعش دم شبابه الفوّار تحت غطاء بارد اللـّون ٬هجرته ألوانه إلى لا رجعة... يوحي بالتّقيّء و يثير أعصابه المنفلتة دوما..

لا شيء يثير النّهوض في غبش الفجر.. فاليوم الأحد , يوم الموظّفين و الكادحين- كما يسمّيه- .. فيه يتفرّغون لنفض ما علق بهم من ملل ولقضاء شؤون ظلّت مكتومة الأنفاس طيلة أسبوع كامل.. فلا عمل و لا إرهاق و لا جري وراء الحافلات. هكذا كانت نفسه كمركبة سريعة الطّواف غير محدّدة المسير و لا الهدف..

..و"الناصر" واحد من هؤلاء : مربّي في مقتبل العمر ’ شاء له القدر أن يكرّس حياته بين الصّبيان و تمردّهم البريء..في المنزل.. في المدرسة..في الحيّ و حتىّ في أضغاث أحلامه.. و في مثل هذه اللّحظات يكون البيت هادئا’ لا صوت فيه سوى شخيره المنبعث من ثقب مفتاح حجرته المعتمة .

تمرّ الدّقائق .. و عيناه لازالتا شاخصتين في السّقف, تتأمّلان رسوما شكّلها النـّدى .. مستقرئتان دوائر لولبية تأخذ البصر إلى أغوار سحيقة ونقاط غامضة تخفي أسرارا لا يستطيع فكّ رموزها.

أخذ يتقلـّب و يدسّ وجهه بين ثنايا الغطاء. غمغم ثم صمت فجأة.. حاول النّهوض فأحسّ بألم مرير اِمتد على طول عموده الفقري.."القسم على الله.. فدّيت من التّنقّل على(الموتور) و أخطاره..الله يخفّف هالخبزة" .
...و بحركة متشنّجة..مدّ يده و أزاح الغطاء.. سحب معطفه من على الكرسيّ و حشر فيه جسده الضّامر. سار في الغرفة بخطى متأرجحة ويداه في جيبه..توقّف أمام منضدة عرجاء ترقص على أزيز باب الغرفة النّصف مفتوح..عبث بأوراق مبعثرة فوقها وعلى الأرض.. "مذكّرات.. دفتر إعداد الدّروس..كتب..كّراسات..أستغفر الله.. مالقيت علاشنوَّة انصبَح.."

فجأة, انتبه إلى نقر رتيب.. أسرع إلى النّافذة و نظر إلى وجه السّماء الشَاحب.. كان المطر ينهمر على واجهة بيت والدته الذي خبأ لونه.. والميازيب تلفظ سيلا من الماء المتعكّر..

ياللمسكين..! كل ما خطّط له بلّله المطر و جرفه السّيل.. فلا ذهاب إلى الملعب .. و لا زيارة لأحبابه..ولا..ولا..

ابتعد عن النّافذة مزمجرا..تبعه ظلّه..حام حوله قليلا محدّقا إليه من فوق كتفه كأنّه يستعدّ للعراك معه, ثم زفر زفرات أشبه بالحشرجة.."كل الطّرق مسدودة في وجهك يا(ناصر)..الله غالب..وقت إلي حاجتي بيك يا وجهي, خبشتّك القطاطس..على كل.. ربّي يرزقنا من خيرو.."

...لا أحد وسط الشارع المحتضر الخال إلا ّمن سيّارة الحماية المدنية التي هبّ أعوانها لنجدة المنكوبين الهاربين من مياه البالوعات الخارجية المرتدّة إلى منازلهم..و بين الحين و الـٱخر, يتّكأ (الناصر) على الحائط خوفا من الإنزلاق و أخذ حمّام في غير حينه.."ٱه لو أستطيع أن أرحم هؤلاء المتساكنين و أريحهم من هذا المستنقع المترامي الأطراف.."

ودون تفكير, تقوده رجلاه إلى مقهى "الشّباب", المتنفّس الوحيد لشباب الحيّ..! و هو أشبه بزقاق طويل تفوح منه رائحة المرحاض الكريهة.. و هل عنده بديل لهذا المستقرّ الظّلوم؟ فيه يدّخر روّاده أوقاتهم
و أموالهم..!وفيه يتعلّمون فلسفة لم يكتشفها علماء الإغريق.. ينهلون منها طقوسا و مبادئ إجتماعية غابت عن المحلّليين و الدّارسين.

..وفي ركن منه, ارتمى (الناصر) فوق كرسيّ بعنف أثار الإنتباه.. لكأنيّ به يريد نفض جسده ممّا علق به من أتعاب و هموم.. كان منشغلا بأفكار طارئة..ضيّق النّفس..كليل الخاطر.جال ببصره بين اللاّعبين الذائبين في لعب الورق, محدّقين في (كفوفهم) و ما تحويه من ألوان وأرقام ..كلّ الوجوه معروفة هنا: فإن كنت باحثا عن أحدهم ٬ توجّه إلى المقهى.. وإن كنت على موعد فمكانه المقهى.. و إن شاء القدر وتخاصمت مع زوجك المصون, التجأ إلى بيت ضرّتها..المقهى.. أمّا إن كنت حائزا على ديبلوم درجة عليا في البطالة.. فعليك بفتح مكتب و حساب جاري بالمقهى .صار يرى البلد كلّه مقهى كبيرا.. حيثما ولّى وجهه, وجد كراسي و طاولات مرصوفة كقبور أموات في معابد النّسيان.

وبين كل هذه المتاهات٬ يرسل زفرة أحسّها سهما مارقا من أحشاءه مزّق الصّمت الكئيب السّاكن في حنجرته . و في غمرة الصّراخ و الصّخب المنبعث ممّن حوله ٬ تتماوج في خلده أحاسيس مؤلمة : في هذا اليوم بالذّات-من عطلة الشّتاء –كان من المقرّر أن يحتفل بخطوبته ..فتاة من حيّ ٱخر, تعرَف عليها بحكم تردّده على مكتبة أبيها لـٱقتناء بعض اللّوازم المدرسية.. مازال يتذكّر ذلك اليوم اللّعين الذي فوجئ فيه بتعدّد المطالب و الشّروط المجحفة. فمن أين يأتي له بكل هذا و مرتّبه لا يسمح له بإكساء نفسه؟ حينها بدأ العدّ التنازلي لإنهاء علاقة بنى عليها آمالا و آمال.

تناول رأسه بين كفّيه كأنّه يحيله إلى اِنتصابه الطّبيعي ... أخرج سيجارة و أشعلها بـٱرتعاش..اِمتصّ منها نفسا عميقا كاد أن يحوّلها إلى رماد.. تسرّب الدّخان إلى رئتيه و شرايينه.. و في زفرة منفلتة, عمّ المكان دخان كثيف سرعان ما تبعثر في كامل الأرجاء . "هات قهوة و زوز سكّر ينوب عليك..ربيّ يا فالق الحبّ و النّوى, إلى متى ستظلّ هذه الرّيح الظّلوم تعصف بي؟ لقد مللت التّخدير و النّفاق.. وكلّ وعود..متى يستيقظ هذا المارد الذي يملك جسدي و يسدّ عروقي..؟متى تنقشع غفوة قلبي النّؤوم..متى..؟ متى..؟"و سرعان ما اِرتجل أبيات شعر نطق بها قلبه قبل شفتيه :
رأيت الأسود في الجحور قابعة
و في العرين تزأر الفئران
هذا في الهوان سابح
و ذاك بين تاج و صولجان
ثلاثة إن صاحبتهم غدروا
البحر و الذئب و الإنسان
فلا تجزعنّ من غرق
فالمركب له ألف ربّان
فطب نفسا و اشرح صدرا
و قل يا دنيا ما فيك من أمان

أراد تسلية نفسه بتركيب هذه الكلمات علّها تمتصّ منه غضبا هدّارا ظلّ قابعا في صدره المفعم بالقلق و التوتّر المتواتر: المجتمع المغلوط..مـٱسي الشّباب التي تظهر جليّة كلافتة إشهار .. مواضيع شتّى يريد تفتيتها و تركيبها من جديد حتى تلحق ركبا بات على مرمى طلقة مدفع عصري ..كلّ هذه الأشياء تقلقه و تعذّبه فتنبش أعصابه بأظافر حادّة..متوحّشة. لا شيء يستطيع فعله..كلّه متجزأ..منتشر في الهواء..مبعثر على الطّرقات. محال أن ينسجم عضو منه مع الـٱخر أو حتّى يجاريه الفعل . في ظرف كهذا٬ أحسّ أنّه جبل مدفون..محبوس في قطرة ندى . يعجز عن التأوّه أو حتّى الإيماءة الخرساء. و لم يفق من غفوته تلك٬ إلّا و السّيجارة فد أحرقت أنامله. فرماها ثم عاد أدراجه من حيث أتى ليعدّ دروس يوم جديد .
انتهى

بقلم المربي
ناصر زيتوني
القيروان

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

من شربنا للبيبسي والكوكة كرامتنا مدعوكةوأرضنا مابين يدنا مفكوكة_من شربنا للبيبسيمانثبت على اتّجاه كيف التّبسينشعل ونطفى في مثيل السّبسيمابين زوز شفاه لخالتي مبروكةوالفرق واضح بين رخفتك وكبسيمن رخفتك دمنا سال في المسكوكة_من شربنا تبنّنابفلوسنا شرينا مشروبنا وتهُنّاكل من شرب كاثر شخيره ننّا واللّي نهض حرق ب شقفته وفلوكةفي فمّنا القطران قلنا بنّةواللّي رضع الذّلّ صعب تروكه _من شربنا تقرّعناخرجت كشاكش بلنا ورتعناوسط المراعي سارحين وجُعنارغم الحشايش مكدّسة ومتروكة.صراخ اولادنا ف أرضنا وجّعنا نسانا سبايا وأرضنا مملوكة._مانقول البيبسي وحدهاو لايحة البويكوت تو نجبدهاكراهب ودخّان ما نعدّدهاوأجهزة في السوق بالدّربوكةإشهار في التلفاز ما يفقدهاتقول حياتنا بلا ها تتبلوكة_تحرم علي العيشةوتحرم علي مثل هذي حشيشةنرسم وشم ف جبهتي ونقيشةلو كان نشري الماركة المشكوكةبيها عدوّي نافش عليّا ريشةكبر دجاجه وسرح في قمحنا سردوكه_مانقد هذا وحديوشكون غيرك سند لي وعضديخويا وصديقي ولد ريف وبلديمن غدوة تروح من حلقنا هالشّوكةهذي وصيتي لولد ولد ولديكي نعدي بقية حياتنا شكشوكة.